أمنا القديسة بخيتة
كنت قد قرأت في السودان كتيب مترجم بالعربية عن القديسة السودانية بخيتة من دارفور التي ولدت في قبيلة الداجو واختطفها تجار الرقيق في أواخر القرن التاسع عشر وباعوها في الخرطوم حيث تعرضت لعذابات مريرة على أيدي تجار الرقيق، وكان خلاصها على يد القنصل الإيطالي العام في زمن الدولة التركية السابقة الذي أخذها معه إلى ايطاليا، حيث نمت هناك معموديتها وصارت مسيحية وسميت جوزفينا، إلا أنها أصرت على الاحتفاظ باسم بخيتة فخراً واعتزازاً بسوادنيتها، وانضمت الى مجموعة راهبات «أخوات كانو سيان» وأصبحت معروفة باسم الأخت السوداء.. اعترفت بها الكنيسة الكاثوليكية مؤخرا ومنحها البابا لقب القديسة من سيرتها وأعمالها بعد أن ثبت أنها أتت بكرامات وأعمال إنسانية أثارت الإعجاب (كما هو معمول به في نظام الفاتيكان) حين انبرت لحماية سكان سيتو خلال عمليات القصف إبان الحروب العالمية..
ن
في فبراير 1997 قمت بزيارة مدينة بادوفا في إيطاليا كأستاذ زائر من جامعة الخرطوم.. وهناك عرفت أن دير القديسة بخيبة مزارها على مسافة ساعة أو ساعتين بالقطار لا أذكر تماما.. وفعلا قررت زيارتها في يوم سبت مع أخ وصديق من أسرة حياتي إسمة 'عمر حياتي' وهو من طلبتي الذين بعثوا للدراسة في الخارج..
ن
حين وصلنا الدير الكبير المسمى باسمها طرقنا على الباب ففتحت إحدى الراهبات شباكا صغيرا بالبوابة وقالت بالإيطالية شيئا ترجمه لي عمر على أنه 'لا يوجد أكل الآن'.. شرح لي عمر أن المغاربة يشبهوننا وكثيرون من الفقراء والمشردين يأتون للأكل.. فشرح عمر للراهبة أننا من السودان ولا نريد أكلا وجئنا للزيارة..
ن
وهنا تغير الوضع وظهر الترحيب وفتحوا لنا البوابة الكبيرة وأدخلونا للاستقبال وجاءت راهبة أخرى تحدثنا وتسألنا عن زيارتنا وأخرجوا لنا عدد من الهدايا والصور والأشكال التي تلبس وحلقان للفتيات وكلها عليها صور القديسة بخيتة..
ن
خرجنا من المحل ونحن محملين بالهدايا..سألني ماذا تفعل بكل هذا قلت له هذا كنز وسأحمله للسودان.. وفعلا وزعتها على 'أهلنا الجمهوريين' حيث يقدرون هذه المسائل ويسعدون بها.. وكان احتفالا وتشريفا وفرحة بأمنا القديسة بخيتة عليها السلام التي ثبتت كراماتها ومعجزاتها وتم الاعتراف بها رسميا حسب تقاليد الكنيسة الكاثلوكية..
ن
وهذه محاولة ترجمة عن الإنجليزية (أرجو ألا تكون مخلة) لما جاء عنها من تعريف: ن
ولدت القديسة بخيتة في حوالي 1870 في قبيلة الداجو بدارفور، وقبل أن تبلغ السابعة اختطفها تجار الرقيق من قريتها وباعوها في سوق الأبيض ثم بيعت في أسواق الخرطوم.. والاسم بخيتة ليس اسمها الأصلي من والديها الذي نسيته لطول ما عانت من العذاب، وإنما كان ذاك الاسم من تجار الرقيق .. أحد أسيادها في الخرطوم كان ضابطا تركيا مغرما بتعذيب البنات الصغار، وقد كان يقطع جسدها بالموس.. وحينما تركته فيما بعد حسبت 114 جرحا بشفرة الموس في كل أجزاء جسدها..وقد كان عمرها دون الثانية عشر.. ن
في سن ال12 اشتراها القنصل الإيطالي 'كالستي ليقناني' حيث عملت كخادمة مع أسرته.. وقد كانت هي المرة الأولى تعامل معاملة إنسانية.. وحينما أرادت أسرة ليقاني الرجوع لإيطاليا أخذوها معهم ذلك في 1885.. حين وصلت السفينة لجنوا طلب ميشيللي من صديقه ليقاني منه أن يترك بخيتة بعض الوقت مع أسرته.. وحينما ولدت طفلة لميشيللي سميت ميمينا فأصبحت بخيتة مربيتها الأساسية.. ن
في 1889 تسجلت بخيتة في المدرسة الكاثوليكية كمرافقة لميمينا.. ثم حينما أتت فرصة لأسرة ميشيللي للعمل في أفريقيا عهدوا بالطفلة والمربية لمدرسة تابعة للكنيسة في فينيسيا، وهناك تعمدت بخيتة رسميا ومنحت الإسم جوزيفينبا في 9 يناير 1890.. ن
في تلك المدرسة أحبها الجميع لأخلاقها العالية وطيبة معشرها وخدمتها للآخرين.. وقد كانت تستقبل الجميع بالإبتسام وبالمحبة وكان صوتها رخيما ومحببا في الترانيم.. من الأقوال: 'برؤية الشمس والقمر والنجوم قلت لنفسي من هو صاحب هذه الأشياء الجميلة ومسيرها؟ وشعرت برغبة عارمة للتعرف عليه ولتقديم الولاء له'.. ن
حينما عادت أسرة ميشيللي ليستلموا إبنتهم ومعها مربيتها عبرت بخيتة عن رغبتها في الاستمرار بخدمة الكنيسة.. وهنا أظهرت ميشيللي أنها تملك جوزيفينا ولم تتنازل عن بخيتة.. وشجع بعضهم جوزيفينا على الوقوف أمام القضاء ، وكسبت الدعوى حين حكم القاضي الإيطالي لصالح حريتها من الرق.. ن
في 8 ديسمبر 1896 دخلت بخيتة الدير، ولمدة خمسين سنة وهبت نفسها لخدمة الله وعاشت في خدمة مجتمعات فينيسيا وفيرونا في أعمال الطبخ والحياكة والتطريز والحراسة ومختلف أنواع الخدمة. ن
وحين امتد بها العمر كانت تقاسي آلام المرض وتعاني من التهابات مزمنة في الجهاز التنفسي ثم في نهاية عمرها رجعت لتعيش أيام عبودية أخرى شبيهة بأيامها الأولى حيث قيدت بالجنازير مع رقيق آخرين وسجنت.. وقد سمعت مرارا وهي تستجدي 'رجاءا خففوا عني رباط الجنازير فهو ثقيل..'.. واخيرا في 8 فبراير 1974 أسلمت 'الأم السوداء' الروح إلى بارئها.. ن
القديسة بخيتة وعملها في خدمة المساكين وفي الأعمال الخيرية ومعجزاتها معروفة على نطاق واسع في المنطقة ولكن لم يتم الاعتراف الرسمي بها حسب تقاليد الكنيسة الكاثولوكية إلا في 1 اكتوبر 2000 تحت ولاية البابا بولس الثاني.. ن
لقد وصفت بخيتة بأنها كريمة وخدومة بصورة نموذجية مثلما جاء في إنجيل 'لوقا'.. وأنها كانت من المستضعفين ورغم ذلك من الناهضين الذين استقبلوا رسالة المسيح بالتطبيق.. وأن حياتها كانت صراعا متصلا من أجل الحرية وأنها وجدت في بذل نفسها في تقديم الخير وفي خدمة المساكين ضالتها المنشودة.. ن
بخيتة تبعت نداء الرب في خدمة الآخرين واستضافتهم وقررت بذل نفسها في خدمة المساكين وفي الأعمال الخيرية.. وقد كانت تقدس كثيرا العبارة 'ها أنا ذا أصبحت ابنة الرب'.. وبقرارها هذا مكنت عمل الروح العظيم من التنزل عليها والعمل خلالها، وقد عرفت بخيتة أن الرب اختارها لتجلب الأخبار السارة للفقراء وبذلت حياتها من أجل ذلك.. ن
بخيتة كانت مثلا للفرد الحر المتواضع بعد طول اضطهاد وقد كان ردها المعتاد على كل صعوبة أو أمر جلل يواجهها هو قولتها 'كما يشاء الرب'.. وقد شاركت في تحرير المضطهدين عبر تجردها للخدمة وللصلاة.. لقد كانت استجابتها لنداء الله هي إعطاء نفسها كاملة في مؤسسة القديسة ماجدولين في كانوسا وفي تجردها لتعيش الإنجيل في نموذج لحياتها وفي صلواتها.. ن
القديسة بخيتة نموذج للرائدة المسيحية العظيمة بتجردها لله.. فكما فعل المسيح، بخيتة جعلت حياتها كلها خير بتحويل المعاناة إلى بذل وخدمة للآخرين.. تواضعها وبساطتها وابتسامتها الدائمة أكسبتها قلوب الناس.. بخيتة كانت تقول: 'كن طيبا.. أحب الله، وصل من أجل من لا يعرفونه.. و ما أعظم أن تعرف الله..''.. ن
بخيتة يضرب بها المثل في التحرر وفي التصالح مع ما حولها وقد كانت أول سوداني/سودانية (وفي الحقيقة أول زنجي/زنجية) يعترف به/بها كنموذج لتجسيد مبدأ كرم الضيافة كما وصف في إنجيل 'لوقا'.. ن
من الصعب الكلام عنها دون ذكر انه لا يزال هنالك في هذا العالم لا زالوا ضحايا لممارسة الإستعباد وتجارة الرق.. ونحن لا نتحدث عن القديسة بخيتة فقط كمثال للتواضع وإنما كرمز يقف أمام الجميع الذين مروا بمرارة الإستعباد..
ن
رجوع
|