المقال أدناه منقول عن: الشرق الأوسط (جريدة العرب الدولية): الخميـس 29 ذو القعـدة 1426 هـ 29 ديسمبر 2005 العدد 9893

طه والمسيح في الخرطوم

بقلم: خالد القشطيني

عرفت السودانيين منذ سنين طويلة، وكان النحات عبد الرزاق، زميلي في كلية كمبرويل للفنون اول عربي تعرفت به في لندن وعلمني على هذا التوافق والتسامح والتعايش في الشخصية السودانية. كان تقيا ورعا ملتزما بفرائض الدين وإقامة الصلاة ويعيب علينا نحن العراقيين تجاهلنا لهذا الفرض. في بقية ايام الاسبوع كان يواظب على الدوام في الكلية يصنع الاصنام العارية ـ التماثيل. لم يشعر بأي تناقض او نزاع في ذاته. ما لله لله وما للدنيا للدنيا. لمست على مر السنين هذا الانسجام والروح السلامية في شتى اصدقائي السودانيين، الطيب صالح وعثمان وقيع الله وسواهما. ن

لهذا وقفت حائرا امام ما جرى في السودان من حرب اهلية في السنوات الاخيرة. بيد اني كنت على طول الخط استبعد الدين كعادتي سببا لمثل هذه المنازعات. انها السياسة قاتلها الله. وفي السودان انها السياسة والتبعة التي خلفها الاستعمار وغذاها الاجنبي. ن

حققت امنية في حياتي ان ازور السودان الذي لم أره من قبل. وكانت الزيارة بمناسبة اختتام مهرجان الخرطوم عاصمة الثقافة العربية وانتقال الراية الى مسقط. وفي اليوم الاول من زيارتي خرجت من فندق قصر الصداقة في مشوار على قدمي اتفقد فيه احوال المدينة كعادتي في زيارة اي بلد جديد عليّ. ن

لم أكد أسير مائة متر من الفندق حتى دوت مكبرات الصوت من مسجد حلة حمد بأذان صلاة المغرب. توقفت لأستمع للأذان السوداني الذي لم يختلف كثيرا عن نبرته في العراق. انتهت الصلاة ودخل المقرئ بسلسلة من المدائح النبوبة التي استمعت اليها بشوق قبل ان استأنف مسيرتي ـ ولكنني لم اتقدم اكثر من خمسين مترا اخرى حتى وقعت انظاري على الصليب، لا بل مجموعة من الصلبان المشرئبة برؤوسها فوق كنيسة مار جرجس القبطية. ن

بدا القدم ظاهرا على الكنيسة والملحقات المسيحية التابعة لها، فلم تكن مبنى جديدا شيد لجبر الخواطر او التأثير على الاجنبي. ن

وكان البنيان مزينا بالصور الكنسية للحواريين والقديسين. واعتلى واجهة البناية تمثال حداثي للقديس جرجس (جورج) وهو يفتك بالتنين. ن

لم يجد رواد المسجد او المسلمون من سكان المنطقة اي اعتراض على ما يرونه كل يوم في طريقهم للوضوء والصلاة في مسجد. ن

لم أجد اثرا لحجارة رشقها صبيان زعران على تلك الصور، كانت بكل وضوح جزءا من حياة التسامح السوداني والتعايش بين الاديان. دخلت الكنيسة بحذر وتجولت في كل مرافقها ومذابحها وهياكلها. لم يعترض طريقي احد ويسألني عن هويتي ونيتي وديانتي. ن

وقفت عند احدى النوافذ لأستمع للقس وهو يعلم الصبيان المنشدين ترتيل اناشيد يوم ميلاد المسيح عليه السلام الذي كان على الابواب. استمعت لتراتيلهم الشجية وهي تختلط بصوت المقرئ المسلم الذي كان يتلو المدائح النبوية المهيبة من مكبرات المسجد. ن

ذكرني المزيج بما قاله المعري لدى زيارته للاذقية: ن

في اللاذقية فتنة ما بين طه والمسيح ن

ولكن في الخرطوم لم تكن هناك أية فتنة. فلم اجد غير ان اعتدي على ابي العلاء لأقول: ن

خرطوم فيها مجمع ما بين طه والمسيح ن

هذا يغني مدائحا وذا يرتل للفصيح ن

كل يمجد ربه وكلاهما عندي صحيح ن

رجوع
 

The primary material of the website is authored by Ibrahim Omer © 2008.