:الكرم الحاتمي: أسطورة أم واقع
قصة من السودان

بقلم: د. مصطفى عمر الجيلي



هذه القصة حدثت في السودان قبل أكثر من عشر سنوات.. وقد كانت منشورة في مجلة تصدر في أحدى المدن الاسكندنافية، ولا أذكر اسم المدينة ولا اسم المجلة الآن.. في محاولتي لسرد هذه القصة هنا، فإني لا أترجمها ولا أتتبع تفاصيلها الحرفية وإنما ..أحكيها كما أذكرها حين اطلعت عليها لسنوات عديدة مضت

القصة تحكي أن شخصا كان يدرس الأدب العربي ويكتب بحثا أكاديميا.. فرضية رسالته كانت أن الكرم "الحاتمي" (نسبة إلى حاتم الطائي) المحكي عنه كثيرا في التراث العربي ليس موجودا في الواقع، لا في الواقع العربي ولا في أي واقع آخر، وأنه لم يحدث عمليا كما تروى الكتب، وإنما كانكل ذلك صور من أشكال الأدب الشعبي الفلكلوري المتوارث بغرض الحض علي فضيلة الكرم.. وفي تبيين ذلك، تقول الفرضية، تذهب القصص مذهب الأساطير والمبالغات لإرساء هذه القيم وترسيخها في قلوب وعقول ..المجتمع، ولكن لا أكثر من ذاك

هذا كان فرضه الذي يسعى لإثباته.. ولكن تشاء الظروف أن يلتقي به شخص خبر السودان، فأخبره بأن الكرم الحاتمي الذي يدرسه والذي يفترض أنه خرافي وخيالي؛ ليس فقط أنه واقعي وممكن الحدوث على سطح هذه الكرة الأرضية، وإنما هو وبشكله الأسطوري هذا موجود الآن وفي يومنا الحاضر في السودان.. الكرم الحاتمي هذا يمارس اليوم في ريف السودان بصورة يومية ..ومعتادة تماما.. وأخبره أنه لفائدة بحثه ولأجل الحقيقة، يمكنه التأكد من هذا عمليا وبنفسه

وكما نشرها الكاتب فيما بعد، قال من فوره تقدم إلى جامعته يطلب تمويلا إضافيا لإكمال بحثه الميداني في السودان.. ولم يمض طويل وقت حتى كان يحط رحاله بمدينة الخرطوم في امتداد لعمله الميداني للتحقق من الفرضية.. استأجر سيارة لاندروفر كما يحكي في مقاله، ومع السائق أيضا اتفق مع مساعد بحث ليرافقه في الرحلة وليكون مترجما ووسيطا مع الثقافات المحلية.. ..تحركت السيارة بثلاثتهم إلى شمال الخرطوم.. وما هي إلا سويعات حتى كانوا خارج الخرطوم على شريط النيل

ويسرد المقال أن السيارة تعطلت بهم مباشرة في اليوم الأول للرحلة بعيد غروب الشمس، حينما بدا الظلام ينشر أجنحته.. طفق السائق يعالج العطل بمصباح يدوي ويراجع كيف عساه يصلح السيارة.. قال ظهر شخص وبادلهم التحايا، ثم سمعه يتحدث مع السائق والمترجم حديثا مطولا وفيه أخذ وعطاء.. استفسر عما يريد الرجل، وعرف أنه يطلب إليهم أن ينزل ثلاثتهم عنده الليلة في بيته القريب لأن الظلام قد حل بالمكان ولا فائدة من معالجة العطل في ذلك الظلام.. ومن لهجة الرجل الحازمة تبين جديته إصراره.. ..وعليه، ولأن ذلك هو الغرض الأساسي من رحلته من أقاصي الأرض، طلب من مرافقيه أن يقبلا الدعوة

وفي الحال توجهوا معه.. قال في ذلك الظلام لم يتبين تفاصيل المبنى أو البيت ولكن ما كان واضحا أن الرجل أخرج السرائر السودانية من الداخل وفرشها بالمراتب البيضاء ثم أحضر ملاءات وأغطية نظيفة.. ثم جاءهم بمصباح صغير يعمل بالكيروسين واخبرهم بأن الحمام جاهز في غرفة أخرى لمن يريد أن يغتسل من وعثاء السفر.. قال وكان الرجل يدخل ويخرج وهو في حالة فرح وابتهاج شديد وفي حالة من الانفعال والسعادة الطافحة.. وعبر كاتب المقال أنه حدثته نفسه أنه لا بد أن يكون هذا المكان مثل فندق محلي ليلي يتقاضى أجره في الصباح؛ وفرح هذا الرجل وابتهاجه دعم اعتقاده هذا.. وفي ظنه توغل أكثر ليقول أنه يستحق ..سعر جيد إذ يقدم كل هذه الخدمات في مثل هذه الظروف الصعبة

قال بعدها جاء الرجل يحمل مائدة كبيرة وعليها أكل يغلب عليه اللحم ومن الواضح أنه لحم بهيمة ذبحت لتوها.. وهناك جهد كبير قد تم في طبخ وإعداد ذلك اللحم.. وبعد الطعام والشراب كان الرجل مهتم بأن يحدثهم ويرفه عنهم بالحديث الطيب الممتلئ بالمرح ..والأنس.. وفي آخر الأمر دعا عليهم الرجل ليلة طيبة إذ أنهم لا بد أن يكونوا مرهقين

في الصباح كانت المفاجأة أن المكان صغير جدا وهو مجموعة من بيوت قليلة مشيدة من القش والحصير.. وجاء الرجل يحمل صينية الشاي بالحليب على براد الصيني وأكواب الزجاج.. وتوافد من بقية البيوت رجال كل منهم يحمل صينيته والكل يعزم عليهم أن يتذوقوا ما جاء به من شاي.. والجميع تتملكهم هذه الحالة من الفرحة والانفعال بحضور الضيوف.. وهو مشهد صعب عليه أن ..يستوعبه

حينما ودعوا تلك البيوت الفقيرة المتناثرة في الصباح كان هدف الرحلة ووجهتها قد تغيرتا، إذ يريد مدير الرحلة الآن أن يرجع لبلاده ليغير فرضيته بعد أن قطع فيها شوطا، بعد أن رأى بأم عينية ما يثبت عكسها.. وقد كتب ورقة منشورة عن هذا الحدث ..الأسطوري، الذي هو حدث طبيعي ويومي عند أهل الريف في السودان

رجوع
 

The primary material of the website is authored by Ibrahim Omer © 2008.